هي الأحساء… أكبر واحة زراعية في العالم، أرض النخيل وموطن التمور، واحة الخضرة والماء العذب، يصل عمرها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. فمنذ القدم، اشتهرت الأحساء بالعيون “الينابيع” الباردة والحارة التي تزيد عن 60 عيناً، منها: الخدود، الحقل، الجوهرية، أم سبعة، الحارة، الحويرات، والبحيرية، والتي تعمل كشريان يروي المزارع التي تحتضن أكثر من 3 ملايين نخلة. كما أنها كانت تستخدم كبرك للسباحة ولإقامة حفلات الأعراس قديماً، بالإضافة إلى العيون الكبريتية وأبرزها عين نجم، التي كانت تعد من أهم المشافي الطبيعية في المملكة والخليج. فارتبط الإنسان الأحسائي بنخيله ومياه أرضه التي تسقي مزارعه؛ فهو يعرف كيف يتعامل مع نخلته، ورعايتها، وسقايتها، وله أسلوبه الخاص من خلال المياه المتدفقة عبر “الثَّبارة”، وهي أشبه بالأنهار الصغيرة.
وخلال العقود الماضية، تمددت الأحساء أفقياً واتسعت الرقعة العمرانية، وظهرت أحياء ومخططات جديدة، فتغيرت ملامح الواحة، وبالتالي لا بد أن تتغير أساليب الري.
13 شوال 1390 هـ، هذا التاريخ لن ينساه الأحسائيون. في هذا اليوم، افتتح الملك فيصل – رحمه الله – مشروع الأحساء العملاق كأضخم مشروع زراعي في المنطقة “مشروع الري والصرف”، وأقيم بأحدث الأسس والطرق والوسائل المتبعة في الري والصرف، واستصلاح الأراضي الزراعية التي تزيد على عشرين ألف هكتار، والتي تعتبر من أغنى المناطق الزراعية من حيث التربة ووفرة المياه الجوفية القليلة الأملاح. كانت معظم الأراضي تغمرها المياه بسبب ارتفاع منسوب ما يتدفق من العيون والآبار، مما أدى إلى نقص المساحة الزراعية، وفي عام 1392 هـ، بدأ المشروع ممارسة أنشطته في مجال التشغيل والصيانة.
فانتعشت الأحساء زراعياً واقتصادياً؛ فتجد في كل بيت أحسائي ما لا يقل عن موظف أو عامل في المشروع، ولضمان الاستقرار والأمان الوظيفي منح المشروع موظفيه خلال العقد الأول من افتتاحه أراضي سكنية لعدد كبير من موظفيه في أحد المخططات السكنية بمدينة المبرز، فارتبط اسم المشروع بالأحساء كارتباطها بنخيلها الباسقات ومياه عيونها العذبة.
وفي العام 1384 هـ، بدأ تنفيذ المشروع “قنوات الري والصرف” بإشراف شركة ألمانية وعلى يد أبناء الأحساء، في بناء وتشييد قنوات الري وشق الطرق عبر القرى المتباعدة، وحفر قنوات الصرف ومراقبة المنشآت والبنى التحتية لأحد أضخم المشاريع الزراعية في العالم، حتى أصبحت الأحساء أكثر واحات العالم استفادة استفادة قصوى من الموارد الناضبة.
ولأهمية مشروع الأحساء العملاق، تم وضع الصورة الشهيرة لقناة الري على فئة الخمسة ريالات ضمن الإصدار الثالث من النقود الورقية عام 1976م، وكذلك على العديد من الكتب والمجلات والمنتجات التجارية، وأكثرها شهرة دلال الشاي والقهوة.
وسعى المشروع إلى تدريب وتطوير أبناء الواحة من خلال مركز التدريب البيطري والإنتاج الحيواني بالأحساء، الذي تأسس عام 1396 هـ كأول مركز يواكب التطوير الزراعي في المملكة. تمتد فترة الدراسة بالمركز لمدة ثلاث سنوات يمنح بعدها الطالب الدبلوم الثانوي للمساعدين الفنيين في البيطرة والإنتاج الحيواني، وتخرج منه المئات من الشباب والتحقوا بسوق العمل الزراعي والبيئي.
وفي عام 1400 هـ، تم إنشاء مصنع التمور على مساحة مائة وأربعة عشر ألف متر مربع، وتم تكليف المشروع بإدارته لمدة أربعين عاماً حتى تم نقل مهام الإشراف عليه في عام 1440 هـ إلى المركز الوطني للنخيل والتمور. كان الهدف من المصنع تحسين أوضاع السوق المحلية للتمور وتعريف العالم الخارجي بإنتاج المملكة من التمور، وكان وما زال المصنع يشكل مصدر رزق لأبناء الأحساء من خلال الوظائف الرسمية أو الموسمية فترة موسم الصرام أو شراء محاصيلهم من التمور.
وفي عام 1438 هـ، صدر مرسوم ملكي بتغيير مسمى هيئة الري والصرف إلى المؤسسة العامة للري، وتوسيع دورها ليشمل تقديم خدمات الري والصرف الزراعي بجميع مناطق المملكة، لتحقيق استدامة الموارد من خلال تزويد القطاعات الزراعية والصناعية والحضرية بالمياه، والحفاظ على الموارد والتوسع بالموارد المائية غير التقليدية، والمساهمة الاقتصادية بتعزيز إنتاجية الموارد في قطاع الري (المياه، الأرض، الطاقة).
ومنذ تاريخ الافتتاح إلى يومنا هذا، أصبح اسم الهيئة أو “المشروع” كما يسميه أهل الأحساء مرتبطاً بتاريخهم ومجتمعهم، ونخيلهم وعيونهم المائية وتوعيتهم وري مزارعهم وتسويق منتجاتهم من خلال الكثير من المبادرات، فتجده منظماً أو مشاركاً أو راعياً لكثير من المناسبات والفعاليات الزراعية والتوعوية والعلمية والاقتصادية والسياحية والمجتمعية.
ثم ماذا بعد… يا مشروع الأحساء العملاق!!! فبعد تلك الإنجازات، ما المفاجآت القادمة المنتظرة من تعزيز التوسع باستخدام موارد المياه المستدامة باستخدام أحدث التقنيات لضمان توفير إمدادات مياه آمنة ومستمرة؟
ختاماً… المؤسسة العامة للري… جذور راسخة في ذاكرة الإنسان الأحسائي.
وليد بن محمد الشويهين
باحث دكتوراه في الإعلام وتكنولوجيا الاتصال
@shwyheenw