د/ ساير الشمري يكتب لـ”المنصة الأولى”: تداخل الأدب والثقافة

يخلط الكثيرون بين مصطلحي الأدب والثقافة، فيستعملون كثيرًا أحدهما مردافًا – إلى حدٍ ما للآخر، بينما يذهب آخرون للفصل التام بين المفهومين، فصل يُخيل للمتلقي أنهما قد لا يتقاطعان إلا في أُطرٍ ضيقة، ويأتي فريق ثالث بآراء أُخر، فيجعل الأدب جزءًا من الثقافة، أو العكس، بينما يستعير آخرون عباءة الجاحظ في تطرقه لثنائية اللفظ والمعنى مقررين أن الثقافة محتوى (معنى) والأدب قالب لهذا المحتوى (لفظ) وهكذا، فيشرّقون ويغرّبون في أقوال فيها القليل من الصحة، لكنها ليست الصحة.

  ولا أدعي أنا هنا أني قد أتيت بالصحة كاملة في هذه القضية المتداولة، ولكني سأضع بعض اللمسات المضيئة حول هذين المصطلحين المتداخلين، وأقول متداخلين لأن أحدهما لا ينفك عن الآخر علميًا وتداوليًا ونقديًا. ولكن هذا التداخل في مواضع واستعمالات تبتعد عن التقعيد التعريفي لأي من المصطلحين.

إن مفهوم الأدب يختلف تبعًا لاختلاف العصور، فيتسع ويضيق، ويمكن من خلال التمعن في عدد من التعريفات لمصطلح الأدب أن نجد معنًى يُقصد به التعريف الجيد له ونطمئن له، وبحسب رؤيتنا له، فالأدب هو تعبير الإنسان عن عواطفه وأفكاره وانفعالاته بالكلام الجيد من الشعر والنثر الذي يثير المتلقي، أي التعبير عن مكنون النفس البشرية وعواطفها وأفكارها بأسلوب إنشائي شعرًا ونثرًا جميل ولذيذ تكون معه ردة فعل من المتلقي إن قارئًا أو سامعًا.

 إن التطرق لمفهوم الأدب أوضح نوعًا ما من تناول مفهوم الثقافة، حيث تعدّد التعريف للثقافة من الشرق والغرب، وكانت معظم التعريفات تلمس الكثير من المقصود وتغطيه بشيء من العمومية أو الخصوصية على حدٍ سواء حسب فكر الكاتب، بينما يخرج أجزاء من هذه التعريفات عن القصد وربما يتوسع ويضيق.

  ومن تعريفات الثقافة الملائمة أنها مجموعة الطرائق لدى شعب ما، أو هي الموروث الاجتماعي الذي يحصل عليه الفرد من مجتمعه الذي يعيش فيه، أو هي العادات والتقاليد والطرق الخاصة لشعب ما، أو هي كلٌ متكامل يشمل الحرف الموروثة والأفكار والعادات والتقاليد والقيم. ويعرّف “أكلينيبرج” الثقافة بأنها أسلوب الحياة التي حددته البيئة الاجتماعية، أي أنها خاصة بشعب ما في فترة زمنية من تطوره التاريخي، وهي من مظاهر وحدته وأصالته.

  وبشكل عام، يمكننا أن نقول إن الثقافة هي” أسلوب الحياة والأفكار والعادات والتقاليد والقيم والأعراف الخاصة بمجتمع معين”.

  والسؤال هنا، هل الأدب جزء من الثقافة أو العكس؟

  وكيف يتداخل الأدب والثقافة؟ وما درجة هذا التداخل؟

  إن الحقيقة الأولى أن الأدب داخل ضمن ثقافة مجتمع أو أمة معينة، ذلك لأن أدبها جزء من عادات حياتها وأفكارها وأعرافها، وقد قيل في المأثور: الشعر ديوان العرب، فالشعر والأدب بشكل عام – عادة من عاداتهم وأسلوبًا من أساليب حياتهم، وأفكارًا يصوغونها من فكر بيئتهم وثقافتهم الخاصة، فالأدب يشكّل الثقافة بالإضافة لبقية العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الأخرى التي تشكّل ثقافة شعب ما.

  أما الحقيقة الأخرى فهي أن الثقافة بخيلائها داخلة ضمن الأدب هي أيضًا! فالشاعر أو الخطيب أو الراوي عندما يبتدع خطابه الأدبي فهو ينتزعه من أفكاره وأفكار مجتمعه وعاداتهم، وثقافته وثقافتهم الخاصة، ينتزعه من أفكاره التي نشأت واكتسبها من مجتمعه وهنا نلحظ تجلّي الثقافة ومن أعراف مجتمعه وعاداته وتقاليده التي اكتسبها من بيئته الاجتماعية الخاصة، وهنا تتجلى الثقافة كمضمون في تفاصيل إبداعه الأدبي. فالأدب العربي وسيلة للتعبير عن الهوية والموروث الثقافي العربي؛ بمعنى أنه يعبّر عن الثقافة بما يحويه داخل نصوصه الإبداعية من موروث ثقافي.

  وقد أشار الدكتور عبد الله الغذامي لشيء مما يهمنا هنا في هذا الموضوع وذلك في تناوله لموضوع النقد الثقافي واختلاف أدواته عن النقد الأدبي، وحديثه عن النسق المضمر، يهمنا من ذلك قوله: إن الإبداع الأدبي بجمالياته وبلاغته يحوي أنساقًا ثقافية مختلفة داخل خطاب الإبداع الأدبي، وأن الانساق الثقافية المختلفة تختبئ وراء النماذج الأدبية (أدبية الأدب).

 فالإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا يحمل شفراتٍ وأنساقًا ثقافية مختلفة، فكرية واجتماعية ونفسية وعلمية واجتماعية وتاريخية.. إلخ، وفي المحصلة يحمل الإبداع الأدبي لأمة ما ثقافتها في ثنايا جمالياته وبلاغته، مثلما تحمل ثقافة أمة من الأمم شعرها وأدبها كمكوّن من مكوناتها الثقافية الخاصة بهذه الأمة أو هذا الشعب.

 فالأدب والثقافة مختلفان كمفهوم، ولكنهما يتداخلان كثيرًا فيتشاركان ويتفاعلان مع بعضهما البعض، ولكن ليس أحدهما جزءًا من الآخر بكل بساطة، بل نقول إن الأدب مكوّن من مكونات ثقافة الأمة، كما أن الثقافة الخاصة لهذه الأمة مكوّن من مكونات الإبداع الأدبي، فالأدب والثقافة يتبادلان التأثير والتأثر ببعضهما، فالأدب يؤثر في تشكيل الثقافة، وفي الوقت ذاته؛ يكون الأدب معبِّرًا عن هذه الثقافة في نصوصه الإبداعية. فكل منهما يجري في عروق الآخر.

د. ساير الشمري

دكتوراه في الأدب والنقد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP to LinkedIn Auto Publish Powered By : XYZScripts.com