في حديثه لـ”المنصة الأولى“، ذكر المهندس عبدالله الشايب أن شواهد الاستقرار البشري في الأحساء التاريخية تعود إلى العهد الهلنستي، وأن التوطين ووجود الأماكن الآهلة للسكن تعود إلى العصر الحجري المتأخر قبل أكثر من 8000 عام. وفي تلك الفترة، كانت جغرافية الأحساء تتوفر فيها تدفق العيون والنباتات. وعند استقرار الإنسان، استفاد من وجود نبات العقربان (القصب) لبناء مأوى عرف بالعشة أو العريش، لأن الحصول عليه كان سهلاً ومنتشراً، وكان بإمكانه استخدامه بسرعة في البناء المؤقت واستبداله في أي وقت.
ولكونه أحد رواد التراث العمراني بالمملكة وعرّاب طراز العمارة الأحسائية الإسلامية بمحافظة الأحساء فتابع “الشايب” بقوله: “ومع تنظيم الري وزيادة عدد نخيل الأحساء (والأحساء هي موطن أصل النخلة ومهدها) والأشجار، تعرف الناس على الخشب كمادة بناء، بالإضافة إلى معرفتهم بمادة الطين وكيفية استخدام اللبن وشيه تحت أشعة الشمس لبناء الحوائط والأسقف من الأخشاب. اتسعت مساحات الغرف واستخدمت تصاميم رباعية، وعملت بها رواشن (الدرايش) لإدخال الهواء والضوء. وعملت الروازن لحفظ الأشياء، واستفادوا من الأخشاب لصنع الأبواب لإغلاق فتحات الدخول.
وهذه المعلومات تعكس الاستفادة التاريخية من الموارد المحلية والظروف الطبيعية في الأحساء لبناء المستوطنات وتلبية احتياجات السكان في تلك الفترة الزمنية.
النقوش الجصية الأحسائية
وأضاف المهندس “الشايب” أنه تحت تأثير عوامل المناخ والحالة الاجتماعية والاقتصادية والتعبدية والأمنية، ابتكر الأحسائيون نوعًا من المباني يُعرف بالبيت ذو الحوي أو البراحة (الفناء). يتميز هذا النوع من البيوت بوجود الغرف المطلة عليه وأحيانًا تحتوي على أروقة، وتوجد ساباط (دهريز) يمتد من الباب الخارجي للمنزل إلى الفناء. يتم استخدام مجلس الاستقبال للرجال بشكل منفصل عن باقي أجزاء المنزل.
ونظرًا لأن الطين عرضة للتأثيرات الجوية مثل المطر والرياح، مما يؤدي إلى تآكله وتدهوره، ابتكر الأحسائيون مادة الجص في وقت مبكر قبل أكثر من 5000 عام (في حضارة دلمون). استُخدم الجص كطلاء لتلك الجدران، وأعطى الألوان البيضاء لها مظهرًا نقيًا وصافيًا. تلك الابتكارات تعكس الحنكة والقدرة على التكيف والتطوير التي كانت تتمتع بها المجتمعات القديمة في الأحساء لتحسين وتعزيز بناء المنازل وجعلها أكثر متانة وجمالًا.
وقد ابتكر الفنان الأحسائي النقوش الجصية الأحسائية المعروفة باسم “الأرابيسك”، سواء كانت هندسية أو نباتية أو حروفية، وذلك كجزء من تطور العمارة والنقش على الخشب. تم استخدام هذه النقوش في تزيين الأبواب والمجموعات المعمارية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، تطور أسلوب آخر متوازٍ لذلك، وهو بناء بالحجر، وانتشرت مع هذه المباني الأقواس والقباب. تم استخدام أنواع مستوردة من الخشب مثل الكندل في بعض هذه البيوت والمساكن التي شيدتها الطبقة المادية الثرية. يجب أن نذكر أن هذه المباني، جنبًا إلى جنب مع المباني الأخرى التي تشكل البيئة الحضرية، تمثل طراز العمارة الأحسائية الإسلامية.
علاوة على ذلك، استمر بناء العشة أو العريش كأسلوب شائع في المجتمعات ذات الدخل المنخفض أو الفقيرة. هذه الأشكال المعمارية تعكس التنوع والتكيف الذي تتمتع به مجتمعات الأحساء، حيث تناسبت مختلف الظروف الاجتماعية والاقتصادية للسكان في تلك الفترات.
العهد السعودي وتطور حركة البناء بالأحساء
وخلال العهد السعودي ومع استقرار البلاد، شهد البناء تطورًا ودخول مواد بناء جديدة أثرت على حجم المنازل والفراغات. ومع ذلك، استمرت المساكن العربية في الحفاظ على السمات الأساسية مثل الفناء. تم تسميتها بالبيت العربي أو المسكن العربي، واستخدم الطابوق الأسمنتي للحوائط الحاملة، واستُخدمت الأسقف الخشبية المربعة. كما تم تكسية الحوائط بلياسة أسمنتية وصبغها في الخمسينيات من القرن الماضي.
ثم تطورت تلك المساكن مع دخول ما يعرف بالبناء المسلح، حيث تم استخدام الخرسانة بالاعتماد على حديد التسليح، وتم بناء القواعد والأعمدة والأسقف بالخرسانة المسلحة وفقًا لتصاميم هندسية مدروسة. انتشر هذا النوع من البناء بشكل أكبر اعتبارًا من السبعينيات الميلادية، وهو ما يُعرف بالفيلات. في هذا النوع من البناء، لم يعد هناك وجود للفناء الداخلي وفقًا للأنظمة البلدية، ولكن يتم تنفيذ التهويات من خلال الارتدادات المعروفة.
لاحقًا، ظهر ما يعرف ببيت الأسرة، والذي يتكون من عدد من الوحدات السكنية المستقلة، والتي تسمى شقق. ولا يزال هذا هو المشهد المسيطر حتى الآن في السكن، ويُعرف باسم عمارة القرن العشرين. هذه التطورات تعكس التغيرات الاجتماعية والعمرانية التي شهدتها المملكة العربية السعودية في العصور الحديثة.
النموذج العمراني للأحساء
واستطرد الشايب، كمتخصص ومشتغل بالبحث العلمي الرصين، على مدى عقود أن هناك نموذجًا عمرانيًا يُمثِّله البيئة الحضرية في مدن مثل الهفوف والمبرز وغيرها في محافظة الأحساء. وعلى الرغم من ذلك، يعتبر النموذج أو المدرسة جوهرًا للمجتمعات في إقليم الأحساء التاريخي وحوض الخليج. ومن خلال ما تمثله الأحساء الآن من جغرافية للمدينة وما حولها، فإنها تشكل المحور الحضاري وقاعدة إقليم الحسا وبلد المنشأ. وبالتالي، يُركز تأثيرها على كامل جغرافية الخليج. ومن المعروف مساهمة الأساتذة والبنائين الأحسائيين في تلك المجتمعات، ويدل ذلك بوضوح على مدرسة العمارة الأحسائية الإسلامية وتأثيرها على العمران.
تأثير صندوق التنمية العقاري
وأضاف الشايب أن صندوق التنمية العقارية كان له تأثير واضح في نهاية السبعينات من القرن الماضي. ولكن، في الثمانينات، بدأت سرعة منح القروض والوعي المتزايد لدى الأحسائيين بأهمية السكن الصحي، الذي يتسع لمساحة أكبر وعدد أكبر من الغرف، يؤديان إلى تسارع هدم البيوت الطينية والحجرية واستبدالها بالمباني المسلحة. وتوسعت جغرافية المدن الأحسائية مثل الهفوف والمبرز نتيجة لوجود المخططات المعتمدة على النمط التخطيطي الحديث. واعتبر هذا الوقت فترة الطفرة والتحول نحو هذه الأبنية المسلحة، مما يدل على المكانة الاجتماعية والتطور والاستفادة من البنية التحتية مثل الصرف الصحي والكهرباء وغيرها.
وباستخدام دعم مشاريع التنمية الحضرية من قبل وزارة الإسكان، انتشرت في الوقت الحالي المساكن المعروفة بالدوبلكس، والتي تعتمد على وجود الخدمات في الطابق الأرضي وغرف النوم في الطابق العلوي. ومع تطبيق الكود السعودي، ستحدث تغييرات في فراغات الغرف وجودة المباني والتهويلات. ونظرًا لأن هذا الموضوع حديث، فسيحتاج إلى بضع سنوات للوصف والتقييم ثم يصبح ذلك النمط السائد حتى لمن يريد أن يبني على حسابة الخاص .
المهندس الشايب
ويشغل المهندس عبدالله الشايب عضو مؤسس بـ”جمعية الحفاظ على التراث” و رئيس فرع الأحساء، إضافة لرئاسته فرع “الجمعية السعودية لعلوم العمران” بمحافظة الأحساء.سابقا،كما أنه عضو في كل من “هيئة المهندسين السعوديين”، و عضو اللجنة الوطنية “للمجلس العالمي لخبراء المحافظة على الآثار” في فرنسا، و عضو مؤسس لجمعية أدباء بالأحساء، بالإضافة إلى عضوية اللجنة الاستشارية في “ملتقى اليانبيع الهجرية”،و اللجنة الإستشارية لنادي النورس الثقافي ، و سفير النوايا الحسنة للجمعية النرويجية للسلام مؤسس اول مركز بالمنلكة مركز النخلة للصناعات الحرفية للتدريب وزميل في “محكمة لندن للتحكيم الدولي”.و يشرف على مشهد الفكر الأحسائي و اصدر سبعة عشر مؤلفاً .
و يعمل مهندس استشاري بشركة للإستشاًرات الهندسية .